ثلاث احتمالات مختلفة من المتعة البصرية
«الموعد الثاني».. عنوان المعرض الذي افتتح مساء الجمعة 26 ايار، بصالة هيشون باللاذقية لكل من الفنانين؛ أسامة دياب، عمار الشوا وغطفان حبيب، هؤلاء كانوا اتفقوا على إنشاء مجموعة فنية أطلقوا عليها إسم «مثلّث دوموزي»، وهذا المشروع كان انطلق بمعرض لهم بغاليري «مصطفى علي» بدمشق نهاية الشهر الماضي، والذي لم يحقّق النجاح المفترض لأسباب مختلفة، فعقدوا العزم على تكرار التجربة في هذا اللقاء الذي هو في معظمه منتقى من أعمال ذلك المعرض مع بعض الإضافات التي ربما تُغني من حيث التنوّع وبعض الاختلاف.
كنت في وقتها قدّ قمت بتقديم المعرض على بطاقة الدعوة، واليوم أرى مناسباً نشر كامل المداخلة حول تجارب من خلال الأعمال التي عرضها الفنانون الثلاثة الذين يستحقون كل التقدير على ما قدموه من جهد واشتغال على تجاربهم، وقبل ذلك لابدّ من التعريف بالغاية والهدف من اجتماعهم اليوم في معرض واحد مرّة ثانية «الموعد الثاني» من خلال بيان لهم حول المجموعة، جاء فيه:
«أعزائي.. “مثلث دوموزي” نحن مجموعة فنانين “ثلاثة”، تشكيليين اكاديميين ذو خبرة وحضور فني، على الصعيد المحلي والدولي. ومن هنا، من الشرق، من سورية الجريحة، وفي عتمة الظلم ومآسي الحرب والشتات؛ تشكلت مجموعة “دوموزي” ترسم للجمال ثوباً مرصعاً بحضارة عمرها آلاف السنين».
إن هذه المجموعة؛ دوموزي، تشكل برأيي فضاءً من الحرية، هي شكل آخر من التعبير عن العلاقة الجدلية بين الليل والنهار، شروق الشمس وغيابها، إيجاد حالة من التناغم والتكامل بين كل من الأسود والأبيض من أجل طيف من الرماديات يمهّد للإياب بعد غياب، وللحياة بعد موت.
في هذا الفضاء من الرمادي يحاول كل من الفنانين، عمار الشوا، أسامة دياب وغطفان حبيب، أن يجد له معادلاً لونياً يستطيع من خلاله أن يقدم رؤيته أو وجهة نظره كفنان في شكل القيامة بعد كل هذا الخراب الحاصل من حوله، وشكل الحياة بعد كل هذا الموت، وكيف سيولد الجمال مرة أخرى ..؟! هي محاولة، بل مساهمة متواضعة من كل منهم أن يقدم شكل حلمه بعودة الوطن أخضراً كما كان.
عمار الشوا، الفنان الذي بدأ الرحلة مجرّباً في الرسم والتقنية، وبقي كذلك ليستمتع هو أولاً بالنتائج التي سيقدمها لنا كمقترحات جمالية وتعبيرية ممتعة بصرياً، يصيغ فضاءاته من حلم وبعض مما تبقى في الذاكرة لواقع بات أقرب إلى الافتراضي، مجتهداً على تجسيد تلك الرؤى بألوان قوس قزح وأشكال لا تخلو من الغرائبية، ودائماً بأكثر من فهم وأسلوب في اللوحة الواحدة، من أقصى الواقية وصولاً إلى التجريد، بينما نلاحظ غالباً شخوصه مشغولة بتعبيرية مفرطة.
يقدم الفنان الشوا في هذا المعرض بعض لوحاته والتي يبدو أنها تعود لأكثر من تاريخ كإنتاج، نلاحظ ذلك من التنوّع الذي ميّز تلك الأعمال من حيث الفكرة والمعالجة لكونه بالأساس يؤمن بل يجد في كل لوحة مشروعاً جديداً، يوماً جديداً بضوئه.. منفصلاً عن الذي كان قبله، ومرتبطاً باللاوعي معه، وهذا يؤكّد استمرارية التجريب في سيرته الفنية، والتي بالنتيجة لابدّ من الوصول بها إلى خصوصية تعكس طريقة تفكير الفنان في تلك اللحظة من الاشتغال.
لقد اتسمت أعماله بالعفوية وبساطة الفكرة أو الموضوع، حتى شملت الصياغات والتقنيات في اللوحة التي تتحوّل تدريجياً وفي لحظة ما إلى فضاء أقرب إلى المُتخيّل الذي يمكن له أن يحتوي نزقنا وشغبنا وبعض لهونا وفرحنا، على تلك المساحة البيضاء التي لابدّ أن تحتوي ما تفيض به أرواحنا من مرارة الواقع وحلمية المتخيّل، ودائماً من أجل مربعات من الدهشة يسعى الفنان من خلال كل هذا أن يمنحنا بعض الأمل بالقادم من الأيام.
نلاحظ اهتمام الفنان الشوّا بالأسود والأبيض كحالة تعبيرية ما زال يشتغل عليها برغبة ومحبّة ليحقّق ربما قيمة مضافة للوحته من خلال اشتغاله على الغرافيك، وهو من قدم معرضاً خاصاً بتقنية قلم الرصاص بمكتبة الأسد بعنوان « بقلم .. لكن من الرصاص!.» في العام 2013، وهذه المبادرة فيها كثير من الجرأة والمغامرة لفنان علّم نفسه وثقّفها لتوازي حالة اللوحة والفن الذي هو بالنتيجة شكل من ممارسة الحرية بفضاءاتها المنفتحة على كل احتمالات المتعة والتحليق والتخيّل كحالات إبداعية مرتبطة في لحظة ما بطريقة تفكيره بالحياة والفن،لقد أنجز الفنان كل هذا في محترفه وهو يحلم بتحقيق جملة تشكيلية جديدة وراقية.
أسامة دياب، الفنان المعروف بحيوية تنقلاته من موضوع إلى آخر وفي كل مرة بأسلوب وصياغة تناسب ما يريد تقديمة من افكار جديدة تتسم بالجدّية والمرتبطة باللاوعي بسيرته الفنية التي ما زالت تتسم عموماً بالتجريب من أجل الوصول إلى فضاءات أرحب بموضوعاتها المتنوعة المنحازة إلى التشخيص عموماً، ودائماً بصياغات جريئة لإيجاد معادل موضوعي يناغم بين الواقعي والافتراضي المتجاوز لحالة الحلم بما هو أفضل.
هو يذهب ويعود لشخوصه محاولاً ضبط إيقاع طيرانها ضمن كادر لوحته الذي يشعرنا باللاوعي بحالة من القلق تجتاحانا وهي تفيض على حواف المشهد بسيولات لونية مرافقة لبعض الشكل ورغبة بالوصول إلى فضاءات أرحب من المساحة المحدّدة لحركته المتجدّدة والسلسة بانسيابية دورانها حول مركز اللوحة، وهذا ما يجعلها تأخذ مساراً محدّداً على شكل قطع ناقص من أعلى المشهد إلى أسفله وبالعكس وهكذا.
رسم الفنان الحارات القديمة بأسلوب أقرب إلى الشائع، بينما نجح بتقديم ما هو مختلف نسبياً عنها باتجاه ما يخصّه من فهم وصياغات تجنح إلى التبسيط والاختزال مراعياً الخصائص الجمالية وما تركه الزمن من بصمة على تلك البيوتات المتقابلة أو المتعانقة بحب، وهو في هذا يشبه ما قدمه في موضوع البورتريه بتفاصيله المختزلة والمقنعة جمالياً، والأهم برأيي سعي الفنان واجتهاده دائماً لخلق حالة عالية من التعبير تميّز تجربته، وهي بالنتيجة لا بدّ أن تعكس بعض توجهاته وغاياته من اللوحة أو العمل الفني عموماً.
حتى الرماديات تميل إلى الزرقة في لوحاته عموماً، وهي تدخل إلى الشكل كلون متوهّج بالضوء وتغادره كفضاء لاحتضانه من جديد وبنفس الدرجة من الرغبة والحيوية والحيادية في نفس الوقت، وخاصة عند مجاورته لبعض الملوّنات في الوجوه التي تتسم بالسماحة والحبّ.
في شخوص أسامة دياب محاولة مجتهدة لملامسة ضفاف الروح مقترباً في فترة سابقة بصياغاته أحياناً من فضاءات الفنان الكبير فاتح مدرّس وخاصة بحالة الشرود والتوهّج في الوجه الأقرب إلى الأيقونة السورية، مقدماً فيما بعد إضافة هامة إلى تجربته في التشخيص عموماً مستفيداَ من تركيز الإضاءة واللون معاً على بعض المناطق المجاورة لنفس الرمادي الذي يحتل معظم المساحة في المشهد المستقّر عموماً والحيوي دائماً بألوانه وضوئه وتناغم عناصره.
غطفان حبيب، الفنان الذي تتسم تجربته وخاصة الأحدث منها بالتركيز على التقنية التي يحاول من خلالها أن يتميّز عمّا هو سائد من أشكال تعبير وصياغات متنوعة، هو يعتمد في ذلك على تهيئة السطح لسيل من الألوان على شكل شبكة من العلاقات المعقّدة تحرّض العين على اكتشاف ما انتهت عليه نلك العاصفة وما تخفيه من أفكار تتماهى هي أيضاً مع حلم لم ينتهي بعد، نتذكّر بعض تفاصيله من خلال ما بقي من وجه هنا، وظهور لبعض العمارة الناهضة هناك وسط المشهد الذي نلاحظ تلاشيها عمودياً من أعلى وأسفل اللوحة التي لا تنتهي بنهاية الكادر غالباً، وكأنها تغيب هنا لتظهر من جديد في لوحة تالية، تفصح عن وشوشات نكاد نسمعها من رجع صدى لون على حوافها أو من آثار خطوط متردّدة وأحياناً متمرّدة ترسم نهايات ذلك الحلم.
ما زال يسعى الفنان غطفان حبيب لأن يجد نفسه في الفن وأحلامه التي يصعب تحقّقها في الواقع، يصيغها من خلال اللون نصاً بصرياً جديداً ومتجدّداً، مستلهماً مفرادته من عمق الحضارات السورية، ومستحضراً بعض ملامح آلهتها وملوكها،ورموز ولغات تلك الشعوب التي صنعت تاريخ هذه المنطقة الغنية بتنوع ثقافاتها، التي تدفعنا لنستمر في صناعة حاضرها ومستقبله.
في مفاصل التجربة وبعض محطاتها نجد بعض الأعمال التي تنحاز إلى الواقعية التسجيلية وهي أقرب إلى الدراسات الأكاديمية، وهنا لابدّ من ملاحظة تمكّن الفنان من الأدوات والمواد الي يستخدمها في إنجاز اللوحة التي لا تنتمي إلى أسلوب أو مدرسة محدّدة في الفنّ،بينما وجد صياغة تخصّه في الرسم والتلوين يمارس فيها أقصى حدود حريته لاكتشاف قدرتها على التعبير من خلال التقنية بحدود الممكن من الجماليات التي تحدثها تلك الحالة من التجريب والاشتغال.
نلاحظ في أعمال الفنان غطفان حبيب تنوع في الموضوعات وأحيانا في الصياغة التي تصل إلى التجريد في بعض اللوحات أو مقاطع منها،حيث يحتل اللون وتحولاته النصيب الأكبر من العمل، هذا التجريد الذي يُغني السطح في معظم الأعمال وحتى المتضمنة تشخيصاً واضحاً وبمعالجة واقعية في مقدمة المشهد من أجل كثير من التعبير ولتأكيد حالة التناغم ما بين الحلم وما بقي من روحانيات في هذه الحياة.
في هذا المعرض «الموعد الثاني» بصالة هيشون باللاذقية لكل من الفنانين أسامة دياب، عمار الشوا وغطفان حبيب، نلاحظ اجتماعالإرادة مرة ثانية للنهوض بمشرعهم الفني لكثير من الحلم بأن القادم سيكون أفضل وتستحقه سورية، فقدم كل واحد منهم مجموعة من الأعمال تعكس رؤى مختلفة من حيث الصياغات والفهم لكل منهم وتجتمع على الغاية والهدف من كل هذا الرسم، بأنه حالة من الانعتاق والانطلاق باتجاه ما هو إنساني أكثر لطمأنة الروح فينا بأن الحياة مازالت تستحق أن تُعاش – على الأقل – من أجل من نحبهم، وهم كُثر وإن لم نجتمع بهم بعد، هذا اللقاء من أجل الاجتماع والتعرّف أكثر على أصدقاء ومُحبين للفن في اللاذقية، المدينة الأكثر رحابة وسماحة وفضل في منح البشرية أول أبجدية وحضارة عريقة نقلوها عبر سفنهم إلى العالم، والذي للأسف يجتمع معظم المتمدنين منهم اليوم على أرض سورية الطيبة ليدمروها.
معرض اليوم هو نفحة من الحب باتجاه الآخر رغم كل هذا الخراب والكراهية والحقد، هو شكل راق من التعبير عن رفض الفن للإرهاب الثقافي الممنهج من أجل تسطيح العقل العربي وطمس هويته .. إن أي لوحة من المعرض هي جملة مشاعر الفنان في تلك اللحظة من التعبير عن سورية، الوطن الذي يتسع لجميع المُحبين والمخلصين من أبنائه الموزعين في العالم اليوم.
الناقد التشكيلي غازي عانا