مروان قصّاب باشي أخيراً يلحق بصديقه عبد الرحمن منيف، هي حالة رحيل إلى حيث لا رجعة .. وموت ..؟ أم هو احتفاء بالحياة ..؟ وبالأحياء الذين لا يموتون ..؟ هذه السطور هي محاولة لإحياء الذاكرة، ما بين اشتعال اللون في مربعات مروان وتوهـّج الكلمة في أعمال منيف .. شكل آخر من اللقاء مرة ثانية بين هامتين، هناك حيث الأرواح تبقى تبدع ألواناً ومفردات جديدة لشكل جديد من الحياة، لن تتعرّف عليها قبل أن تتذوّق الموت الذي هو افتراضياً شكل مختلف للحياة أو ما بعدها.
رحيل مروان قصاب باشي قد يضفي على اللون بعض العتمة، ربما لنكتشف أكثر أهمية الضوء بجوارها، احتفاء بالصداقة التي جمعت بينه وبين تحوّلات الشكل من خلال اللون ونقيضه على نفس السطح الرحب بمساحته وفيض تعبيره وحكاياته، التي كان يريد من خلالها أن يكثـّف الحياة بوجه، كان يسعى إلى تقريبه منا كي نكتشف كم هو أقرب إلى الحقيقة في زمن بات التشابه يلغي خصوصية كثير من البشر.
مروان الذي ساهم بشكل كبير بانتشار الفن السوري في أوربا والعالم وكان معلّماً لجيل من الفنانين الألمان وفناناً مؤثّراً في تجربتهم وفي التعبيرية الألمانية المُحدثة، ولكن بألوانه وإضاءته هو، السوري القادم من الشرق نهاية خمسينيات القرن الماضي وإلى يوم رحيله بقي مستنداً إلى ذاكرته البصرية المشبّعة بالروحانيات والتي وظّفها هناك بأعماله التي ما زالت وستبقى شاهداً أميناً لتلك العلاقة الحميمة في اللوحة بين بساطة وعفوية الحسّ في الشرق وثقافة ومعرفة أصول التكنيك في الغرب.
يحاول في كل مرة ومن خلال وجه يشبه وجهه إثارة الآخر بتواتر أداته في الرسم التي تُشعرك أحياناً بتعثـّرها من تدفـّق العاطفة التي لا تتيح للرسام أن يبوح أكثر، مكتفية بالإشارة أو الإيهام باللون ودلالاته إلى الأشياء التي غالباً لا تبدو مألوفة، وكأنها مذكرات أو محطات يسجل فيها تلك الانطباعات في لحظة ما، يلوّن بالأحبار والمائيات مثلما بالزيت بحسب الحالة وفهمه الخاص للون الذي يعتبره يأتي من الأصابع ومن القلب، ثم من عملية اكتشاف مستمرة لا تخلو من عنصر المغامرة وهذه العلاقة تتغيّر مع الزمن وتقدّم الفنان بالعمر، وبالنتيجة من متعته هو التي لا تكتمل برأيي إلاّ من خلال ممارسة أقصى حدود الحرية أثناء عمله، الذي تميّز بحالة التعبير الشديدة وهي تفيض من وجوه شخصياته المأزومة عموماً، والمُختَزلة بضربات ريشة أو أداة قاسية وعريضة، يمكن أن تكتشف ذلك أكثر كلّما ابتعدت عن المشهد لتبدأ التفاصيل بالإفصاح عن ذاتها تدريجياً على شكل سلسلة من التضاريس بسماكات متباينة تظهر على السطح هنا وهناك على شكل سيولات تعكس حالة من الترف اللوني والغنى التقني تشبه أطلال بعض الأمكنة الحميمة في زمن مضى، كما تدلّل بلا ريب عن مقومات شخصية اجتمعت كل معاناتها في وجه، كما في لوحته التي صوّر فيها صديقه وتوأم روحه الروائي المبدع عبد الرحمن منيف، والذي شكّل غيابه صفعة موجعة إلى درجة باتت لوحاته بعد ذلك الرحيل تعكس لحظات من البوح حول مجموعة من الأحداث أو التحولات التي كان ومازال شاهداً على أهمّها «انهيار جدار برلين»، المدينة التي تسربل بعشقها فسكنته قبل أن يعرف أنه سيسكنها إلى أن يشيخ فيها ولكن شيئاً واحداً لم نتوقّعه أن يموت فيها، لا لن يموت كفنان وسيبقى حاضراً متوهجاً من خلال تلك الوجوه بصدقها وألوانها التي تعبق برائحة الأحبّة والزمن الجميل.
«مروان قصّاب باشي .. رحلة الحياة والفن» عنوان كتاب صدر منتصف التسعينات لصديق عمره الروائي عبد الرحمن منيف الذي رحل بعد حوالي العقد ونصف وبقي مروان لفترة يجول في عوالم رواياته متأثـّراً بخصائص شخصياتها كـ «عسّاف في – النهايات» التي تحمل الأمل رغم موته الفجيعي .. وهنا لابد من الإشارة إلى أن مروان عندما يورد بعض تلك الحكايات ليس إلا ليظهر مدى التشابه والتشابك بينه وبين منيف في الذاكرة المعاشة والمخزونة، كون رواية منيف مرتبطة بجغرافية وتاريخ المكان للإنسان العربي وهو لا يقتصر على عالم المدينة والزقاق، بل يتعداه إلى رحاب أوسع وفسحات تكاد تكون مجهولة لإنسان المدينة ..
ومروان بقي من يومها يرسم تلك الحكايات التي يروي بعضها بنفس المصداقية واللغة التي تشدّ المتلقي «قارئاً ومشاهداً»، يرسم بالحبر الأسود ما يشبه الخربشات الواعية لما تبقى في الذاكرة حول تلك الشخصيات أو الأحداث، في صياغاته دائماً ما يثيرك بتواتر أداته في الرسم التي تشعرك أحياناً بتعثـّرها من تدفـّق العاطفة التي لا تتيح للرسام أن يبوح أكثر مكتفية بالإشارة أو الإيهام إلى الأشياء، وكأنها مذكرات أو محطات يسجل فيها تلك الانطباعات في لحظة أو جزء منها، يلوّن بالأحبار والمائيات بعض الرسوم كما يفعل الأطفال من غير تشذيب أو عناية بحدود الرسم لتفيض بعضها عن الخطوط التي حاول بداية أن يقول من خلالها شيئاً، فقرر أن يكمل باللون ما بدأه بالرسم قبل قليل وهكذا، وكأنه يرسم لمتعته هو، تشبه تلك الرسومات لحظات من البوح في حضرة الغائب الحاضر عبد الرحمن منيف ..
واليوم ايضاً أصبح مروان قصاب باشي «الغائب الحاضر»، بعد أن كان من الفنانين الأكثر حيوية في المشهد التشكيلي السوري المغترب، وهو الذي بدأ ممارسة الفن نهاية أربعينات القرن الماضي حيث حصد الجائزة الأولى من معرض الربيع السنوي 1955 آنذاك عن تمثال الجوع، وبعد ذلك عُرف كرسام وله أعمال عديدة بالحفر «الأسود وأبيض»، منها مجموعة مقتنيات في المتحف الوطني ومتحف دمّر بدمشق، رسم الطبيعة والطبيعة الصامتة في أكثر من مشهد ودائماً بصياغته المختزلة وضربات ريشته العنيفة والقاسية على السطح محافظاً على أسلوبه الخاص الذي لا يخلو في بعض المستويات من التجريد والسريالية المستند على الواقعية كأساس وعلى الإنسان كموضوع للتعبير من خلاله عن مجموعة القيم النبيلة بالحياة، مؤسّساً لمدرسة جديدة في الفن المعاصر تتضمن مفاهيمه وصياغاته التي رسّخها في ورشات عمل ومعارض وتظاهرات عديدة في أكثر من دولة بالعالم، وقد كان أحد ضيوف الشرف على معرض باريس دمشق الذي أقيم نهاية العام 2009 في المتحف الوطني بدمشق.
وداعاً مروان الوجه الأكثر إشراقاً وتوهّجاً وتعبيراً ..
ستبقى لوحاتك تفيض بتوهّج روحك التي ستبقى تمجّد مقولة «الإنسان قيمة عليا في الحياة»..
مروان قصّاب باشي :
– مواليد دمشق 1934 .
– 1955-1957 جامعة دمشق كلية الآداب.
– 1955 الجائزة الأولى في النحت من معرض الربيع – دمشق.
– 1957-1963 دراسة الرسم في الكلية العليا للفنون الجميلة – برلين.
– 1963-1970العمل في مصنع للجلود نهاراً والرسم ليلاً.
– 1966 جائزة كارل هافر – برلين.
– 1973 جائزة «Cite’ des Arts» – باريس.
– 1977-1979 بروفسور زائر للرسم في الكلية العليا للفنون الجميلة – برلين، و بروفسور دائم منذ العام 1980.
– 1993 اختير عضواً في المجمّع الفني البرليني.
– نهاية صيف 2016 رحل الفنان مروان قصّاب باشي الذي كان يعيش متفرّغاً للرسم في برلين منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي.