تقوم مديرية الفنون الجميلة، في وزارة الثقافة، بالإجراءات الأخيرة لافتتاح معرض الخريف السنوي للفنانين التشكيليين ، والذي شهد في العام الماضي خطوة مهمة للأمام بحكم تشدد لجنة المعرض في قبول الأعمال، وحرصها على أن تكون على سوية متقدمة، تتناسب مع أهمية المعرض، وتاريخه..
يرث «معرض الخريف» نصف «المعرض السنوي» التاريخي ، فيما يرث «معرض الربيع» نصفه الثاني وبما يوحي بارتباط اسمي المعرضين بالفصلين اللذين أقيما فيهما. وقد أقيم «المعرض السنوي» لأول مرة عام 1950 وهو ما يجعله أحد أقدم المعارض الدورية العربية،وقامت بتنظيمه وزارة المعارف «حل محلها اليوم وزارتا التربية والتعليم العالي» ومديرية الآثار والمتاحف.
وفي عام 1959 قسم المعرض إلى اثنين : «معرض الربيع» في حلب، و «معرض الخريف» في دمشق. ومع تأسيس وزارة الثقافة في عهد الوحدة السورية – المصرية انتقلت مسؤولية تنظيم المعرض إلى مديرية الفنون الجميلة فيها حيث أعادت بعد بضع سنوات دمج المعرضين في معرض واحد، استمر- كما بدأ – بتقديم صورة متكاملة وشاملة عن المشهد التشكيلي السوري، بسبب حرص الفنانين باختلاف اتجاهاتهم الفنية ومدارسهم وأجيالهم على المشاركة، ما أدى إلى استمرار نمو أهمية المعرض التي بلغت ذروتها في الثمانينات، حيث صار يقام تحت الرعاية السامية للسيد رئيس الجمهورية، ودمج فيه معرض سنوي آخر كانت تقيمه «نقابة الفنون الجميلة» تحت عنوان «تحية إلى ثورة الثامن من آذار»، كما دخلت في إطاره أقسام جديدة كالخط العربي والتصوير الضوئي، إضافة إلى التصوير والنحت والحفر،،وصار أشبه ما يكون بالمهرجان التشكيلي تتوزع معارضه على عدة صالات وتفتتح في عدة أيام..
اعتمدت المعارض الأولى أسلوب الجوائز كتعبير عن دعم الدولة للفن التشكيلي، فقدمت جوائز مالية إلى الفائزين الثلاثة الأوائل في التصوير والنحت،و تحول هذا التعبير بعد بضع سنوات إلى اقتناء الأعمال المشاركة من قبل المؤسسات الثقافية والتعليمية وحتى الاقتصادية،.وفيما بعد اقتصرت عملية الاقتناء على وزارة الثقافة فبلغت أوجها عام 1999 حين رفعت الوزارة قيم الأعمال الفنية المنتقاة إلى أرقام غير مسبوقة , ومنها الأعمال الفائزة في بينالي المحبة الذي أقيم قبل المعرض السنوي ببضعة أشهر..
كان لهذه السياسة الثقافية- الاقتصادية أثرها المباشر على سوق الأعمال الفنية السورية. ففي تلك الفترة التي شهدت افتتاح الكثير من صالات العرض الخاصة ومحال بيع الأعمال الفنية، مثَل المبلغ الذي تدفعه وزارة الثقافة معياراً يصعب التراجع عنه ما منح الأعمال التشكيلية السورية قيمتها المادية العادلة إلى حد كبير،وشجع المزيد من الفنانين على العمل والعرض، وحمى الفن التشكيلي السوري من المضاربات التجارية التي كان يمارسها تجار اللوحات الفنية في الجوار اللبناني، والتي كانت تعمل دائماً على بخس الأعمال الفنية السورية قيمتها الفنية والمادية.
غير أن هذه الحال لم تستمر بعد ذلك بالوتيرة الحيوية نفسها،ذلك أن المبالغ المرصودة لاقتناء الأعمال التشكيلية لم ترتفع كما كان يتطلب الحال نتيجة زيادة قيمة هذه الأعمال، وزيادة عدد الفنانين الداخلين حديثاً إلى الساحة التشكيلية، والذي يمثل اقتناء أعمالهم ضرورة «توثيقية» وثقافية. كما أن ظهور صالات العرض العملاقة واحتكارها لنتاج بعض الفنانين المهمين بعقود أبرمتها معهم،واستقطابها لكثير من الفنانين المميزين،قد حرم المعرض السنوي من مشاركاتهم، وحرم الدولة السورية بالتالي من اقتناء أعمال تتطلب الحاجة الثقافية امتلاكها لها.. ثم أن عدم توفر مكان مناسب للعرض قد دفع قبل عدة سنوات لإعادة تقسيم المعرض إلى معرضين، وتم تخصيص المعرض الربيعي بالفنانين الشباب،والخريفي بالفنانين المخضرمين.
لقد ساهمت سياسة الاقتناء من المعرض السنوي، ومن ثم من معرضي «الربيع» و «الخريف» في تشجيع الفنانين على المشاركة، كما ساهمت تلك السياسة في تملك الدولة لمجموعة مهمة من الأعمال الفنية ذات القيمة الإبداعية والثقافية والتاريخية،والتي تمثل ذاكرة ثقافية وطنية لأي دولة، وقد اقتنيت «هذه المجموعة» لغايتين بآن واحد، أولها: تشجيع الفن التشكيلي، وخاصة أن مجمل المبلغ المخصص لهذا الأمر هو مبلغ زهيد مقارنة بما ينفق على مجالات قد تكون أقل أهمية..
وثانيهما: تكوين نواة لمتحف الفن الحديث، الحلم القديم والدائم للتشكيليين، والمثقفين عموماً..